أقوال وآراء في الجغرافيا العسكرية
النزاعات بشتى ضروبها ظاهرة إنسانية أزلية ، تعود في تاريخها إلى الإنسان الأول ومنازعاته وقتاله مع الآخرين بما فيهم اخوته . وسعى - مما سعى فيه وإليه - إلى تنمية قدراته وأساليبه القتالية لتحقيق الفوز والنصر على الآخرين من الأعداء و الأقران ، بل ومن الحلفاء أيضا في بعض من الأحيان . وبرز من بني البشر مقاتلون عظام ، وقادة أفذاذ ، حفظت كتب التاريخ الكثير من انتصاراتهم ، و دوّنت أقوالهم و حفظتها ، وتناقلتها أجيال لاحقة من العسكريين ومن ذوي الاهتمام لما تحويه من حكمة وحنكة و سداد بالرأي ، وباتت أقوال وأفكار أولئك المقاتلون والقادة تحتل مقدمات المحاضرات والأطروحات العسكرية ، ويستشهد بها توكيدا لفكرة أو خطة ما ، وكمثال على ذلك ما تجلت به عبقرية الرسول الأعظم العسكرية ، في قوله صلى الله عليه وسلم : " الحرب خدعة " . وتسعى السطور التالية إلى عرض لبعض الآراء والأقوال في مجال الجغرافيا العسكرية ، والتي تتناول بالدراسة آثار العناصر الجغرافية - طبيعية واصطناعية – على الأنشطة العسكرية والتخطيط لها .
ينسب عادة القول لصاحبه ، ولكن توجد أقوال لا يعرف قائلها لسبب ما ، ولكن صحة القول أو المعلومة التي يسوقها تبقي عليه ، وهنا يكون القول أعظم أهمية من قائله . ولعل القول : " المناخ climate هو ما تتوقع ، لكن الطقس weather هو ما تجد " هو حقيقة ، وتفسير ذلك أن المناخ هو مجمل حالة الجو لمنطقة ما ، وتبنى معلوماته على أساس معدلات ومتوسطات لقراءات وإحصاءات، هي حصيلة معلومات لسنوات طويلة ، وعلى ذلك إن أشارت معلومات المناخ لمنطقة ما أن صيفها معتدل ، فإن هذا لا يحول من تعرضها لأحوال حارة أو باردة في وقت ما من الصيف.
تتعرض بعض الأقوال إلى بعض التحريف والتغيير أحيانا مع الزمن ، كما قد تختلف نتيجة الترجمة والنقل من لغة القائل إلى لغة أخرى عبر لغة ثالثة فيصيب القول تغيّر ما ، وإن كانت الفكرة واحدة ، ولكن قد يفقد القول الجمال والدقة التي أوردتها لغة القائل . ومن أمثلة اختلاف الترجمة ما قاله المفكر الصيني الشهير صن تزو Sun Tze ( سون تسي ) في كتابه الشهير " فن الحرب " قبل نحو 2500 سنة ، فقد ورد في كتاب ونترز Winters ورفاقه ما ترجمته " أولئك الذين لا يعرفون أحوال الجبال والغابات ، ومخاطر الشعاب ، والسبخات والمستنقعات ، لا يستطيعون قيادة مسير جيش "
، وقد ورد القول في ترجمة ربيع مفتاح للكتاب بالصيغة التالية : " وهؤلاء الذين لا تتوافر لديهم الدراية بالجبال والغابات والطرق الضيقة الخطرة والحقول والمستنقعات لا يجب عليهم قيادة الجيش "
، وقد وردت في ترجمة ناصر الكندي للكتاب على النحو التالي " و من لا يعرف الجبال والغابات ، الأودية والشعاب ، السبخات و المستنقعات لا يمكنه قيادة جيش " .
ولا تقل أهمية معرفة القائل عن أهمية القول و جوهره ، فالاختلاف على اسم القائل أمر غير مستبعد ، ومن ذلك المقولة الجامعة " قتلت أرض جاهلها ، وقتل أرضا عالمها "
إذ وردت في معجم لسان العرب لابن منظور وفي مجمع الأمثال للميداني على أنها مثل من الأمثال العربية ، في حين وردت في الكامل في التاريخ لابن الأثير على لسان خالد بن الوليد في محادثته لعمرو بن عبد المسيح أثناء حصاره له في أحد قصور الحيرة بعد معركة بادقي ، كما وردت على لسان النعمان بن مقرن موجها إياها إلى عناصر الاستطلاع في معركة نهاوند ، وفي رواية أخرى وردت في تاريخ الرسل والملوك للطبري على لسان عمرو بن أبي سلمى العنزي عنصر الاستطلاع وليس النعمان ، وعلى أي حال يرجح أن القول هو مثل عربي استشهد به من سبق ذكره .
يصدر القول عن صاحبه عقب تجربة عاشها ، أو عمل مارسه على أرض الواقع ، فجاءت فكرته أو قوله فيما بعد ، فيوردها في كتاب يضعه أو في محاضرة يلقيها ، وسيكون مقنعا في ما يورده ، لاقتناعه برأيه وفكرته التي خرج بهما . لكن يأتي القول كرد فعل فوري أو شبه فوري ، أي وليد ساعته .
ومن ذلك ما قاله اللفتنانت جنرال (الفريق) البريطاني السير كيجل Kiggell بعد رؤيته للطين والأرض الموحلة والأمطار في ساحة معركة أمام الألمان في منطقة الفلاندرز عام 1917 إذ قال : " يا إلهي هل أرسلنا الرجال للقتال هنا حقا ؟ " . فقد كانت معركة رهيبة بلغت فيها الخسائر البريطانية 400,000 بين قتيل وجريح ، مقابل 65,000 للألمان .
وكان للعرب في تاريخهم الطويل دور عسكري هام ، وإنجازات عسكرية لا تقل بحال عن إنجازاتهم الحضارية ، ولم يعد العرب أهل حرب " الكر و الفر " فقط بل أظهروا عبقريات عسكرية تجلّت في فتوحاتهم ، ويحفل التراث العربي بالكثير من جوانب الجغرافيا العسكرية التي تشير إلى موروث عسكري يعتّد به ، ولهم أقوال و آراء منها كمثال : كان زياد ابن أبيه (1 – 35 هجرية ) وكان من دهاة العرب يقول لقواده : " تجنبوا إثنين لا تقاتلوا فيهما العدو : الشتاء و بطون الأودية "
وأغزى الوليد بن عبد الملك جيشا في الشتاء ، فغنموا وسلموا ، فقال لعبّاد ابن زياد: يا أبا حرب ، أين رأي زياد من رأينا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، قد أخطأت ، وليس كل عورة تصاب . وبذلك يثبت العربي مقدرة في تحديد الوقت والمكان غير المناسبين جغرافيا للعمليات ، وهما فصل الشتاء ببرده ومطره ، وبطن الوادي المنخفض المعرض لضربات العدو من الأعالي . كما تبين القصة كيفية الدفاع عن الرأي حتى أمام الخليفة القائد الأعلى للجيش.
تتشكل الرؤية العسكرية في كثير من الجوانب والعناصر الجغرافية، مما يعطي شمولية وإحاطة ممتازة للقرار العسكري ، ويبدو ذلك واضحا في رسالة الباحث والمترجم والعسكري لورنس Lawrence (1888- 1945) المعروف باسم لورنس العرب ، والموجة إلى رجل الإستراتيجية البريطاني ليدل هارت Liddell Hart عام 1933 في قوله : " عندما أتخذ قرارا أو أتبنى خيارا ، يكون ذلك بعد دراسة لكل عامل هام . ففي الجغرافيا البنية القبلية ، والدين ، والعادات الاجتماعية ، واللغة ، والميول ، والمعايير ، كل ذلك قريب لي أتلمسه كأصابعي " . وقد سبق السياسي الإيطالي الشهير ميكافيلي Machiavelli (1469-1527) لورنس في الجمع بين العوامل الطبيعية والبشرية إذ قال : " في وقت السلم على الجندي تعلُم طبيعة الأرض ، وكم انحدار الجبال ، وكم تنفتح الأودية ، وأين تقع السهول ، و أن يفهم طبيعة الأنهار والمستنقعات ، عندها وباستخدام المعرفة والخبرة التي حصل عليها في مكان ما ، في ذلك الوقت يمكنه فهم أي مكان آخر "
. وبناء على ذلك يدعو إلى الدراسة المقارنة ، من حيث تعميم الأمور في مكانين يتشابها في أحوالهما .
أكد الزعيم الصيني الشهيرماوتسي تونغ Mao Zedong ( 1893- 1976) على دور الإنسان والجوانب المعنوية عندما قال : " هناك النظرية المسمّاة ( الأسلحة تعني كل شيء ) …الأسلحة عنصر هــام في الحرب لكنها ليست بالسلاح الحاسم ، الذي هو الإنسان الذي يعوّل عليه وليس المادة ، إن صراع القوى ليس الصراع بين القوتين العسكرية والاقتصادية فقط ، بل و بين إحدى القوى ومعنويات البشر ".
يصدر قول عن شخص ليس بالعسكري أو الجغرافي ، ولكن يمكن تفسير قوله عسكريا أو جغرافيا بل و يمكن أن يفسر بما لم يقصده القائل أصلا، ومن ذلك قول الشاعر الأمريكي الشهير فروست Frost (1874-1963) القائل : " الأسيجة الجيدة تصنع جيرانا جيدين "
إذ يمكن تفسيره بأن القوات المسلحة القوية ( سياج الوطن) تجبر الدولة المجاورة على أن تكون جارة مسالمة وغير مؤذية ، كما يمكن أن تفسر بأن الحدود السياسية ( الدولية ) واضحة المعالم ، وغير المتنازع عليها ، تضمن حسن الجوار لعدم وجود مبرر للنزاع . كما يمكن أن تصدر عبارات مماثلة في كراسات تدريب القوات المسلحة ، ومنها ما ورد في كراسة الميدان الأمريكية التي تحمل الرمز FM 100-5(1993) وهو " إن الأرض terrain ليست محايدة ، فهي إما تساعد أو تعيق إحدى القوى المتنازعة " .
كما ورد في الكراسة FM 100 – 5 (1982) " إن للطقس والأرض أثرا أكبر من أي عامل مادي آخر بما فيه الأسلحة ، والمعدات ، أو الإمدادات " .
وقد نالت المعالم الطبيعية الكثير من الأقوال و الآراء ، ومما قيل في الصحراء ما أورده C.F Lucas Philip : " يمكن أن تكون الصحراء للوافد حديثا إلى الصحراء ، مكان رعب حقيقي ، حيث لا طرق ، و لا منازل ، ولا أشجار ، ولا معالم بارزة من أي نوع ولمسافات مئات الأميال . وسيجرب الخوف الحقيقي لأول مرة من أن يضيع تماما ، ويلاقي حتفه على أيدي عدوّه أو في قسوة الأراضي القاحلة في عمق الصحراء الخاوية "
. وقال Maurice De Saxe في الجبال : " أولئك الذين يشنون الحرب في الجبال ، عليهم أن لا يمروا عبر شعابها قبل أن يجعلوا من أنفسهم أولا سادة المرتفعات "
. وهذا أمر واجب ، إذ بدون السيطرة على المرتفعات الحاكمة لا تتمكن القوات من عبور الممرات والشعاب . كما قال W B Kennedy Shaw في الرياح : " لكثير من البلاد رياحها الحارة ومنها رياح الخماسين في مصر ، و الريح الشرقية في فلسطين ، ورياح الهرمتان في غرب أفريقيا ، اجمع كل هذه الرياح معا ، وأضف إليها الرمال ومذاقها وانفخها باتجاه الشمال ، لتخرج من أبواب جهنم ، عندها ستبدأ بمعرفة ماهية رياح القبلي في واحة الكفرة الليبية صيفا " .
ويبدو من هذا القول أن صاحبه قد عانى من رياح القبلي في الصحراء الليبية . كما يشابه ذلك تجربة اللفتنانت كوماندر Arlie Capps الذي قال : " لقد أعددنا قائمة بكل ما يمكن تصوره من معيقات طبيعية وجغرافية ، لكن إينشون حوتها جميعها " .
ويبدو كذلك إن هذا القائد البحري الأمريكي قد عانى الكثير في معركة ميناء إينشون إبان الحرب الكورية .
النزاعات بشتى ضروبها ظاهرة إنسانية أزلية ، تعود في تاريخها إلى الإنسان الأول ومنازعاته وقتاله مع الآخرين بما فيهم اخوته . وسعى - مما سعى فيه وإليه - إلى تنمية قدراته وأساليبه القتالية لتحقيق الفوز والنصر على الآخرين من الأعداء و الأقران ، بل ومن الحلفاء أيضا في بعض من الأحيان . وبرز من بني البشر مقاتلون عظام ، وقادة أفذاذ ، حفظت كتب التاريخ الكثير من انتصاراتهم ، و دوّنت أقوالهم و حفظتها ، وتناقلتها أجيال لاحقة من العسكريين ومن ذوي الاهتمام لما تحويه من حكمة وحنكة و سداد بالرأي ، وباتت أقوال وأفكار أولئك المقاتلون والقادة تحتل مقدمات المحاضرات والأطروحات العسكرية ، ويستشهد بها توكيدا لفكرة أو خطة ما ، وكمثال على ذلك ما تجلت به عبقرية الرسول الأعظم العسكرية ، في قوله صلى الله عليه وسلم : " الحرب خدعة " . وتسعى السطور التالية إلى عرض لبعض الآراء والأقوال في مجال الجغرافيا العسكرية ، والتي تتناول بالدراسة آثار العناصر الجغرافية - طبيعية واصطناعية – على الأنشطة العسكرية والتخطيط لها .
ينسب عادة القول لصاحبه ، ولكن توجد أقوال لا يعرف قائلها لسبب ما ، ولكن صحة القول أو المعلومة التي يسوقها تبقي عليه ، وهنا يكون القول أعظم أهمية من قائله . ولعل القول : " المناخ climate هو ما تتوقع ، لكن الطقس weather هو ما تجد " هو حقيقة ، وتفسير ذلك أن المناخ هو مجمل حالة الجو لمنطقة ما ، وتبنى معلوماته على أساس معدلات ومتوسطات لقراءات وإحصاءات، هي حصيلة معلومات لسنوات طويلة ، وعلى ذلك إن أشارت معلومات المناخ لمنطقة ما أن صيفها معتدل ، فإن هذا لا يحول من تعرضها لأحوال حارة أو باردة في وقت ما من الصيف.
تتعرض بعض الأقوال إلى بعض التحريف والتغيير أحيانا مع الزمن ، كما قد تختلف نتيجة الترجمة والنقل من لغة القائل إلى لغة أخرى عبر لغة ثالثة فيصيب القول تغيّر ما ، وإن كانت الفكرة واحدة ، ولكن قد يفقد القول الجمال والدقة التي أوردتها لغة القائل . ومن أمثلة اختلاف الترجمة ما قاله المفكر الصيني الشهير صن تزو Sun Tze ( سون تسي ) في كتابه الشهير " فن الحرب " قبل نحو 2500 سنة ، فقد ورد في كتاب ونترز Winters ورفاقه ما ترجمته " أولئك الذين لا يعرفون أحوال الجبال والغابات ، ومخاطر الشعاب ، والسبخات والمستنقعات ، لا يستطيعون قيادة مسير جيش "
، وقد ورد القول في ترجمة ربيع مفتاح للكتاب بالصيغة التالية : " وهؤلاء الذين لا تتوافر لديهم الدراية بالجبال والغابات والطرق الضيقة الخطرة والحقول والمستنقعات لا يجب عليهم قيادة الجيش "
، وقد وردت في ترجمة ناصر الكندي للكتاب على النحو التالي " و من لا يعرف الجبال والغابات ، الأودية والشعاب ، السبخات و المستنقعات لا يمكنه قيادة جيش " .
ولا تقل أهمية معرفة القائل عن أهمية القول و جوهره ، فالاختلاف على اسم القائل أمر غير مستبعد ، ومن ذلك المقولة الجامعة " قتلت أرض جاهلها ، وقتل أرضا عالمها "
إذ وردت في معجم لسان العرب لابن منظور وفي مجمع الأمثال للميداني على أنها مثل من الأمثال العربية ، في حين وردت في الكامل في التاريخ لابن الأثير على لسان خالد بن الوليد في محادثته لعمرو بن عبد المسيح أثناء حصاره له في أحد قصور الحيرة بعد معركة بادقي ، كما وردت على لسان النعمان بن مقرن موجها إياها إلى عناصر الاستطلاع في معركة نهاوند ، وفي رواية أخرى وردت في تاريخ الرسل والملوك للطبري على لسان عمرو بن أبي سلمى العنزي عنصر الاستطلاع وليس النعمان ، وعلى أي حال يرجح أن القول هو مثل عربي استشهد به من سبق ذكره .
يصدر القول عن صاحبه عقب تجربة عاشها ، أو عمل مارسه على أرض الواقع ، فجاءت فكرته أو قوله فيما بعد ، فيوردها في كتاب يضعه أو في محاضرة يلقيها ، وسيكون مقنعا في ما يورده ، لاقتناعه برأيه وفكرته التي خرج بهما . لكن يأتي القول كرد فعل فوري أو شبه فوري ، أي وليد ساعته .
ومن ذلك ما قاله اللفتنانت جنرال (الفريق) البريطاني السير كيجل Kiggell بعد رؤيته للطين والأرض الموحلة والأمطار في ساحة معركة أمام الألمان في منطقة الفلاندرز عام 1917 إذ قال : " يا إلهي هل أرسلنا الرجال للقتال هنا حقا ؟ " . فقد كانت معركة رهيبة بلغت فيها الخسائر البريطانية 400,000 بين قتيل وجريح ، مقابل 65,000 للألمان .
وكان للعرب في تاريخهم الطويل دور عسكري هام ، وإنجازات عسكرية لا تقل بحال عن إنجازاتهم الحضارية ، ولم يعد العرب أهل حرب " الكر و الفر " فقط بل أظهروا عبقريات عسكرية تجلّت في فتوحاتهم ، ويحفل التراث العربي بالكثير من جوانب الجغرافيا العسكرية التي تشير إلى موروث عسكري يعتّد به ، ولهم أقوال و آراء منها كمثال : كان زياد ابن أبيه (1 – 35 هجرية ) وكان من دهاة العرب يقول لقواده : " تجنبوا إثنين لا تقاتلوا فيهما العدو : الشتاء و بطون الأودية "
وأغزى الوليد بن عبد الملك جيشا في الشتاء ، فغنموا وسلموا ، فقال لعبّاد ابن زياد: يا أبا حرب ، أين رأي زياد من رأينا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، قد أخطأت ، وليس كل عورة تصاب . وبذلك يثبت العربي مقدرة في تحديد الوقت والمكان غير المناسبين جغرافيا للعمليات ، وهما فصل الشتاء ببرده ومطره ، وبطن الوادي المنخفض المعرض لضربات العدو من الأعالي . كما تبين القصة كيفية الدفاع عن الرأي حتى أمام الخليفة القائد الأعلى للجيش.
تتشكل الرؤية العسكرية في كثير من الجوانب والعناصر الجغرافية، مما يعطي شمولية وإحاطة ممتازة للقرار العسكري ، ويبدو ذلك واضحا في رسالة الباحث والمترجم والعسكري لورنس Lawrence (1888- 1945) المعروف باسم لورنس العرب ، والموجة إلى رجل الإستراتيجية البريطاني ليدل هارت Liddell Hart عام 1933 في قوله : " عندما أتخذ قرارا أو أتبنى خيارا ، يكون ذلك بعد دراسة لكل عامل هام . ففي الجغرافيا البنية القبلية ، والدين ، والعادات الاجتماعية ، واللغة ، والميول ، والمعايير ، كل ذلك قريب لي أتلمسه كأصابعي " . وقد سبق السياسي الإيطالي الشهير ميكافيلي Machiavelli (1469-1527) لورنس في الجمع بين العوامل الطبيعية والبشرية إذ قال : " في وقت السلم على الجندي تعلُم طبيعة الأرض ، وكم انحدار الجبال ، وكم تنفتح الأودية ، وأين تقع السهول ، و أن يفهم طبيعة الأنهار والمستنقعات ، عندها وباستخدام المعرفة والخبرة التي حصل عليها في مكان ما ، في ذلك الوقت يمكنه فهم أي مكان آخر "
. وبناء على ذلك يدعو إلى الدراسة المقارنة ، من حيث تعميم الأمور في مكانين يتشابها في أحوالهما .
أكد الزعيم الصيني الشهيرماوتسي تونغ Mao Zedong ( 1893- 1976) على دور الإنسان والجوانب المعنوية عندما قال : " هناك النظرية المسمّاة ( الأسلحة تعني كل شيء ) …الأسلحة عنصر هــام في الحرب لكنها ليست بالسلاح الحاسم ، الذي هو الإنسان الذي يعوّل عليه وليس المادة ، إن صراع القوى ليس الصراع بين القوتين العسكرية والاقتصادية فقط ، بل و بين إحدى القوى ومعنويات البشر ".
يصدر قول عن شخص ليس بالعسكري أو الجغرافي ، ولكن يمكن تفسير قوله عسكريا أو جغرافيا بل و يمكن أن يفسر بما لم يقصده القائل أصلا، ومن ذلك قول الشاعر الأمريكي الشهير فروست Frost (1874-1963) القائل : " الأسيجة الجيدة تصنع جيرانا جيدين "
إذ يمكن تفسيره بأن القوات المسلحة القوية ( سياج الوطن) تجبر الدولة المجاورة على أن تكون جارة مسالمة وغير مؤذية ، كما يمكن أن تفسر بأن الحدود السياسية ( الدولية ) واضحة المعالم ، وغير المتنازع عليها ، تضمن حسن الجوار لعدم وجود مبرر للنزاع . كما يمكن أن تصدر عبارات مماثلة في كراسات تدريب القوات المسلحة ، ومنها ما ورد في كراسة الميدان الأمريكية التي تحمل الرمز FM 100-5(1993) وهو " إن الأرض terrain ليست محايدة ، فهي إما تساعد أو تعيق إحدى القوى المتنازعة " .
كما ورد في الكراسة FM 100 – 5 (1982) " إن للطقس والأرض أثرا أكبر من أي عامل مادي آخر بما فيه الأسلحة ، والمعدات ، أو الإمدادات " .
وقد نالت المعالم الطبيعية الكثير من الأقوال و الآراء ، ومما قيل في الصحراء ما أورده C.F Lucas Philip : " يمكن أن تكون الصحراء للوافد حديثا إلى الصحراء ، مكان رعب حقيقي ، حيث لا طرق ، و لا منازل ، ولا أشجار ، ولا معالم بارزة من أي نوع ولمسافات مئات الأميال . وسيجرب الخوف الحقيقي لأول مرة من أن يضيع تماما ، ويلاقي حتفه على أيدي عدوّه أو في قسوة الأراضي القاحلة في عمق الصحراء الخاوية "
. وقال Maurice De Saxe في الجبال : " أولئك الذين يشنون الحرب في الجبال ، عليهم أن لا يمروا عبر شعابها قبل أن يجعلوا من أنفسهم أولا سادة المرتفعات "
. وهذا أمر واجب ، إذ بدون السيطرة على المرتفعات الحاكمة لا تتمكن القوات من عبور الممرات والشعاب . كما قال W B Kennedy Shaw في الرياح : " لكثير من البلاد رياحها الحارة ومنها رياح الخماسين في مصر ، و الريح الشرقية في فلسطين ، ورياح الهرمتان في غرب أفريقيا ، اجمع كل هذه الرياح معا ، وأضف إليها الرمال ومذاقها وانفخها باتجاه الشمال ، لتخرج من أبواب جهنم ، عندها ستبدأ بمعرفة ماهية رياح القبلي في واحة الكفرة الليبية صيفا " .
ويبدو من هذا القول أن صاحبه قد عانى من رياح القبلي في الصحراء الليبية . كما يشابه ذلك تجربة اللفتنانت كوماندر Arlie Capps الذي قال : " لقد أعددنا قائمة بكل ما يمكن تصوره من معيقات طبيعية وجغرافية ، لكن إينشون حوتها جميعها " .
ويبدو كذلك إن هذا القائد البحري الأمريكي قد عانى الكثير في معركة ميناء إينشون إبان الحرب الكورية .